مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على اشرف المرسلين وخاتم النبيين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد:
يكشف تاريخ علم العقائد عن مسارين رئيسين للدرس العقدي؛ مسار تربوي يهتم بتوطين العقيدة في النفوس، ومحاولة تجسيدها في سلوك الناس حتى تصبح واقعا عمليا، يحقق السعادة في الدنيا والآخرة. ومسار دفاعي يهتم بالمنافحة عن العقيدة ضد الخصوم والمنحرفين في الاعتقادات.
وإذا كان المسار الأول يتجه إلى الجمهور وعامة المسلمين بالتربية والتهذيب العقدي، فإن المسار الثاني تتولاه الصفوة من علماء الأمة، -ما سمي في تاريخ المسلمين بعلماء الكلام- بعلمهم الذي لا يمكن إنزاله بأي حال من الأحوال إلى الجمهور، حتى لا تكون الفتنة ويكون الدين كله لله، ورحم الله أبو حامد الغزالي حين كتب "إلجام العوام عن علم الكلام"، لأنه يدرك خطورة الموقف، على وحدة الأمة وتراص صفوفها.
فالمسار الأول يدخل في تكوين ثقافة الأمة، أما المسار الثاني فيدخل في تحديد منطقها، الأول يحتاج إلى أدوات وآليات ووسائل لتفعيل العقيدة وتحقيق التوازن في هذا التفعيل؛ حتى يستغرق جميع أركان العقيدة، أما الثاني فيحتاج إلى أقوى المناهج والأدلة وطرق الاستدلال حتى يصمد ويثبت وتكون له الغلبة في ظل التدافع الحضاري.
والثقافة العقدية لأمتنا مازالت جامدة على تلك المفردات القديمة التي فقدت حيويتها، رغم الكثير من المحاولات التي تدعو إلى التجديد وتجسيد العقائد حتى تصبح واقعا عمليا، فثقافة أمتنا اليوم –مثلا- لا هي ثقافة دنيا ولا هي ثقافة آخرة، ولا هي ثقافة دنيا وآخرة معا، فالعقائد والغيبيات منتشرة في الدائرة الشعبية بشكل جزئي مشحون بالخرافة والأساطير، تنتج إنسانا لا يعرف لا قيمة الحياة ولا قيمة الموت، فالموت الذي هو جسر عبور من الدنيا إلى الآخرة، يجب أن يخصص له علم ومخابر ودراسات، حتى يتحول إلى ثقافة، وبعد الموت الحياة البرزخية، وبعدها القيامة، ثم البعث والنشور والحشر ثم العرض والحساب والصراط، والجنة والنار...، كل هذه العقائد يجب أن تخصص لها علوم حتى تتحول إلى ثقافة، كما خصص للتوحيد علم ومؤسسة هي المسجد وتحول إلى ثقافة رغم حصارها وتقليص دورها.
وما قيل عن الثقافة ينطبق عن المنطق، فرغم المحاولات التجديدية في عُدّة الأمة المنهجية والاستدلالية في مجال علم العقائد، من طرف علماء الأمة ورواد حركتها الإصلاحية، مثل أبو الأعلى المودوي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني ومحمد قطب ومحمد إقبال وعبد الحميد ابن باديس وغيرهم كثير، إلا أن هذه الأمة مازالت جامدة على تلك المفردات القديمة التي تعكس تجربة تاريخية لها ظروفها وملابساتها، ولها عدتها المنهجية والمفاهيمية، ولها واقعها ومستواها المعرفي، ولإن كان هذا التراث وهذه التجربة يمكن الاستفادة منها ولا يمكن أبدا تجاوزها وتخطيها، إلا أنه لا يمكن الجمود عندها واجترارها بحرفيتها وبمنطقها وعدتها المنهجية والمعرفية، لأننا نعيش واقعا يحمل خصوصيته المعرفية وعدته المنهجية.
لهذا فإنه يطيب لي ويشرفني في هذا السداسي الثاني من السنة الجامعية 2019م-2020م، أن أشرف على تدريس مادة مناهج الاستدلال في علم العقائد، التي تنتمي إلى وحدة المنهجية، الموجهة إلى السنة الأولى ماستر، تخصص العقيدة الإسلامية، بالمعامل (02) والرصيد (04)، والتي تهدف إلى تمكين الطالب من إدراك مناهج الاستدلال في علم العقائد، لدى المدارس الكلامية الكبرى، بعد أن درس في مرحلة ليسانس جوانب مختلفة حول العقيدة الإسلامية، ومازال إلى الآن، يدرس عنها وبشكل أكثر دقة وعمقا وهو متخصص فيها.
ويدور محتوى هذه المادة على مجموعة من المفردات التوجيهية؛ حيث يبدأ بضبط المصطلح والنشأة، قاصدا بذلك الوقوف عند المفاهيم المحورية التي تشكل عنوان المادة؛ كمفهوم المنهج ومفهوم الاستدلال ومفهوم العقيدة في الحقلين المعرفيين الإسلامي والغربي، وتتبعها نشأة وتاريخا ومسارا ومآلا، ثم فحص العلاقة بينها، للكشف عن حقيقة المصطلح المركب مناهج الاستدلال في علم العقائد، وحيثياته ومختلف مسالكه.
ثم يلج مباشرة إلى المدارس الكلامية الكبرى، بداية بتتبع مسارات الاستلال في الحركة السلفية في مختلف الحقب التاريخية بعد الخلافة الراشدة، كحقبة الخلافة الأموية ثم الخلافة العباسية ثم حقبة الدول المملوكية ثم الحقبة العثمانية.. ثم تتبع مسارات الاستدلال في التجربة الأشعرية ثم التجربة الاعتزالية ثم التجربة الماتريدية وأخيرا الكشف عن مسالك الاستدلال في الحركة الصوفية عبر هذه الحقب التاريخية.
وقد حددت هذه المفردات مجموعة من المراجع والمصادر، الموجهة للأستاذ والطالب على السواء منها كتاب المواقف للإيجي، ومقالات الإسلاميين للأشعري، والرسالة القشيرية، للقشيري، وإحياء علوم الدين للغزالي وكبرى اليقينيات الكونية لمحمد رمضان البوطي، وكتاب مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي لعبد الرحمن بن زيد الزبيدي.
وقد تم هيكلة هذه المفردات في عشرة محاضرات موزعة على أسابيع السداسي الثاني مختومة بخاتمة لخصت ما تم تدارسه ومناقشته من مواضيع، في المحاضرات العشر السابقة، فهي تلخص النتائج والتوجيهات والاقتراحات والتوصيات ومختلف الاستشكالات التي تم استكشافها خلال المسيرة البحثية.
- محاضر: ammar gasmi